تحذيرات تجاهلتها مدريد قبل العتمة.. تقرير رسمي كشف هشاشة الشبكة والمغرب تدخل لمنع انهيار شامل للكهرباء في إسبانيا
في وقت غرقت فيه أجزاء واسعة من إسبانيا والبرتغال في ظلام مفاجئ وعطل كهربائي واسع النطاق، الأسبوع الماضي، طفت على السطح أسئلة حارقة بشأن مدى جهوزية البنية التحتية الكهربائية في شبه الجزيرة الإيبيرية لمواجهة الاختراق السريع والمتسارع للطاقة المتجددة، فبينما لم تُعرف بعد الأسباب الدقيقة للانقطاع، كشفت وثائق رسمية وتقارير تقنية عن تحذيرات سابقة أطلقتها شركةRedeia، المسؤولة عن تدبير الشبكة الكهربائية الإسبانية، بشأن "مخاطر شديدة" مرتبطة بالتحول الطاقي الذي تتبناه البلاد.
ففي تقرير مالي مفصل نُشر في فبراير الماضي، حذّرتRedeia، الشركة الأم لـ Red Eléctrica Española (REE)، من أن "الاختراق القوي للطاقة المتجددة دون بنية تقنية مرافقة قادرة على التكيف مع الاضطرابات قد يتسبب في انقطاعات على مستوى الإنتاج"، وهو ما قد يؤدي إلى "اختلال بين العرض والطلب، ويُعرض البلاد لأزمات إمداد كهربائي حادة على المدى القصير والمتوسط".
التقرير الذي نشرته صحيفة "لوفيغارو"، الذي جاء في 380 صفحة، لم يُثر نقاشا حينها في الأوساط السياسية أو الإعلامية، لكنّ الأزمة المفاجئة التي عاشتها البلاد هذا الأسبوع أخرجته من رفوف التجاهل إلى صدارة النقاش العمومي، بعدما تأكدت العلاقة المحتملة – وإن غير مؤكدة رسميا – بين الإشكالات التي أُثيرت فيه وما حدث ميدانيًا من شلل كهربائي عمّ مدنًا بأكملها.
رغم هذه المؤشرات، سارعت رئيسة Redeia، بياتريث كوريدور، إلى نفي أن يكون الحادث الكبير الذي وقع يوم الإثنين ناتجا عن ارتفاع نسبة الطاقة المتجددة في الشبكة الوطنية، مؤكدة في تصريحات لراديو "كادينا سير" اليوم الأربعاء، أن "إنتاج الطاقات المتجددة آمن، وربطه بانقطاع الكهرباء الأخير غير صحيح وغير دقيق"، مضيفة أن التقرير المالي الذي تحدث عن المخاطر "كان إجراء شكليا تفرضه القوانين التنظيمية، ويهدف إلى استعراض المخاطر النظرية الممكنة وليس الإشارة إلى أسباب آنية".
غير أن هذه التطمينات لم تُنه الجدل، بل دفعت مراقبين إلى التساؤل حول مدى واقعية التقديرات الرسمية، في ظل ما بات يُعرف بـ"الفجوة التنظيمية" بين سرعة التحول نحو الطاقات النظيفة وبطء تأهيل البنية التحتية التكنولوجية لتواكب هذا التحول.
وتُعد إسبانيا واحدة من الدول الأوروبية الرائدة في الاعتماد على الطاقات المتجددة، حيث تجاوزت في بعض الفترات نسبة 50% من الإنتاج الوطني، غير أن هذا النجاح البيئي لا يخلو من تحديات بنيوية، أبرزها ضعف مرونة الشبكة الكهربائية التقليدية في استيعاب التذبذب الطبيعي في إنتاج الطاقات النظيفة، خصوصًا تلك المعتمدة على الرياح والشمس، والتي قد تتوقف فجأة بفعل تغيرات الطقس.
وحذر تقرير Redeia من أن غلق المحطات "التقليدية" مثل الغاز والفحم والطاقة النووية، دون إيجاد بدائل تنظيمية فعالة، يُعرض البلاد لفقدان ما يُسمى "الإنتاج الصلب" أو المستقر، ما يصعّب تدبير الفائض أو العجز في الشبكة ويُضاعف مخاطر الانهيار المفاجئ.
ولم يقتصر التقرير ذاته على الإشكال التقني، بل أشار أيضا إلى ما سماه "مخاطر الهجمات أو الحوادث التي قد تمس الأنظمة المعلوماتية" المرتبطة بتدبير الكهرباء، ورغم أن فرضية "الهجوم السيبراني" تم استبعادها من طرف الشركة بعد انقطاع هذا الأسبوع، إلا أن تزامن التحذيرات التقنية والأمنية مع الواقعة أثار شبهات حقيقية حول هشاشة نظام التسيير الإلكتروني للشبكة، وحجم التأثير المحتمل لأي اختراق أو خلل تقني، فيما يخشى مسؤولون أن يتسبب تكرار مثل هذه الأزمات في ضرب ثقة المواطنين والمستثمرين في استراتيجية الانتقال الطاقي، ما لم يتم الإسراع بإعادة تأهيل البنية التحتية وتأمين الشبكة تقنيًا وأمنيا.
وانقطاع الكهرباء الأخير في إسبانيا لم يكن مجرد حادث تقني عابر، بل جرس إنذار حقيقي لمسؤولي الطاقة في البلاد، يُذكرهم بأن التحول البيئي نحو الطاقات النظيفة لا يمكن أن يُبنى فقط على الطموحات السياسية أو الإنجازات الرمزية، بل يتطلب إصلاحا جذريا في شبكات التوزيع، وتوازنا عقلانيا بين الإغلاق التدريجي للمصادر التقليدية وبناء منظومة قادرة على الاستيعاب والتنظيم الذكي للطاقة.
ووسط الفوضى التي خلّفها الانقطاع المفاجئ للتيار الكهربائي في كامل شبه الجزيرة الإيبيرية، برز اسم المغرب في قلب المشهد، ليس كمتابع من بعيد، بل كشريك فعلي قدّم دعما مباشرا ساهم في استقرار الشبكة الإسبانية خلال اللحظات الحرجة، فبمجرد تسجيل الخلل، فعّلت المملكة خط الربط الكهربائي المشترك عبر مضيق جبل طارق، موجّهة جزءا من إنتاجها الطاقي نحو الجارة الشمالية في إطار آلية التضامن الطاقي بين البلدين.
وهذا التدخل المغربي، الذي نال إشادة رسمية من رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، يؤكد مرة أخرى أهمية التكامل الاستراتيجي بين الرباط ومدريد، خصوصا في قطاع الطاقة الذي بات يشكل أحد أعمدة التعاون الثنائي، ليس فقط في أوقات الاستقرار، بل أيضًا كشبكة أمان في لحظات الاضطراب الكبرى.
وبينما كانت إسبانيا تعيش ارتباكا في شبكتها الداخلية بسبب تحديات التحول السريع إلى الطاقات المتجددة، برز المغرب كنموذج إقليمي يجمع بين طموح الانتقال الطاقي وحس الواقعية في تأمين التوازن بين الإنتاج والطلب، فبنيته الطاقية التي تراكمت على مدى سنوات من الاستثمارات في الطاقات الشمسية والريحية، مرفوقة ببنية تحتية مرنة وروابط دولية فعالة، مكّنته من التحرك بسرعة في لحظة عجز إسباني مؤقت، دون أن يتأثر استقراره الداخلي.
وفي ضوء هذه التجربة، يؤكد محللون أن الربط الكهربائي بين المغرب وإسبانيا لم يعد مجرد خيار فني أو اقتصادي، بل أصبح ركيزة في منظومة الأمن الطاقي الإقليمي، وإحدى الأدوات الحيوية في مواجهة صدمات المستقبل.





تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :